ماذا حقق الملتقى العربي الدولي لحق العودة؟
هو ملتقى استثنائي بكل المقاييس شكلا ومضمونا، سواء على الصعيد الفلسطيني أو العربي أو الدولي، بعناوينه ومفرداته ودلالات ذلك وانعكاساته المستقبلية على كل الجهات المعنية المؤثرة والمتأثرة في مجريات القضية الفلسطينية على حد سواء وأهمها اللاجئون الفلسطينيون وعدوهم الإسرائيلي صاحب المصلحة الكبرى في إسقاط حقهم في العودة إلى ديارهم.
قامت بالدعوة للملتقى، الذي انعقد يومي 23 و24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بدمشق، قرابة الستين جهة على اتساع العالم وخصوصا المنطقة العربية من خليجها إلى محيطها بكل تنوعها المهني والنقابي بل وخلفياتها السياسية المتعددة في الإطار القومي والإسلامي والأممي.
وجاء هذا الالتئام تجاوبا مع الفعاليات التي أطلقتها اللجنة العربية لإحياء الذكرى الستين للنكبة والتي انبثقت عن المؤتمر الوطني الفلسطيني للحفاظ على الثوابت والذي انعقد في بدايات هذا العام.
” أول ما يسجل لملتقى دمشق لحق العودة أنه أسقط قاصدا كلمة الفلسطيني لما في ذلك من إرجاع للقضية لمسارها الصحيح من كونها قضية عربية بالمعنى القومي والجغرافي الممتد، وقضية دولية بالمعنى الديني الإسلامي الواسع المقرون بالنصرة الإنسانية “ |
أول ما يسجل في هذا الصدد أن الملتقى حدد عنوانا له في الإطار العربي والدولي لحق العودة وأسقط قاصدا كلمة الفلسطيني لما في ذلك من إرجاع للقضية لمسارها الصحيح من كونها قضية عربية بالمعنى القومي والجغرافي الممتد، وقضية دولية بالمعنى الديني الإسلامي الواسع المقرون بإرساء الحق والعدل ونصرة المظلوم من أخوة الإنسانية في كل أنحاء العالم. وفلسطين في البعدين حاضرة في قلب الأمة العربية والإسلامية ومركز اهتمام عالمي كبؤرة صراع يتجلى فيها الظلم والقهر بحق الشعب الفلسطيني والحيلولة دون ممارسة حقوقه وعلى رأسها حق العودة.
إن من شأن هذا التعامل الجاد مع القضية الفلسطينية أن يستدعي الأبعاد الحقيقية للصراع، مما يعني مدافعة للتوجه الخطير والمرسوم بعناية إسرائيليا بتنفيذ تآمري دولي وتواطؤ إقليمي للأسف من تقزيم القضية في الإطار الفلسطيني الضيق، وترك الفلسطينيين وحدهم يصارعون كل هذه القوى. ومن هنا جاء البعد الإستراتيجي الهام من الارتقاء لمستوى التحدي والتعامل مع استرجاع الحقوق بكل مضامين القوة في القضية.
تأتي أهمية دمشق من اعتبارها مضيفة للملتقى بما يحوي ذلك من دلالات، على اعتبار أن نسيم فلسطين يعبق بِحَارات دمشق وجنبات مخيمات اللاجئين الفلسطينيين المنتشرة في المحافظات السورية.
فسوريا تستضيف ما يزيد على الأربعمائة ألف لاجئ طوال ستين سنة خلت من الصراع. وتجلى هذا الوجود بمشاركة فاعلة من اللاجئين عبر مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في سوريا وعلى رأسها تجمع العودة الفلسطيني (واجب)، وفي الإعداد والتحضير بإخلاص لقيام هذا الملتقى والسهر على نجاحه. وسوريا تعني أيضا أهمية التعاون الرسمي والشعبي في الإطار العربي لإرجاع الحقوق الضائعة وعلى رأسها حق العودة.
جاء الملتقى ليسلط الضوء على المخاطر التي تتهدد حق العودة، وأن من أُسس تحصين هذا الحق التعاطي مع ما يمكن أن يغيِّبه. وهنا يأتي الدور العربي الرسمي بالعموم القديم الجديد في التعامل غير السليم مع حق العودة بطريقة تفضي إلى إسقاطه.
ونسمّي في هذا المجال المبادرة العربية التي نصت في بنودها على “حل عادل متفق عليه” دون النص على حق العودة لفلسطين 48. وكذلك سوء معاملة الفلسطينيين المقيمين في بعض الدول العربية وخاصة فلسطينيي العراق ولبنان وكذا حملة الوثائق المصرية من فلسطينيي غزة.
وكل هذا من شأنه أن يزيد اليأس في نفوس اللاجئين، مما يعني إمكانية قبول بعضهم بالهجرة إلى أماكن بعيدة مؤقتا أو الأخذ بأية حلول تطرح خلاف العودة لفلسطين سواء كان تعويضا أو توطينا أو تجنيسا.
أن يقرن الملتقى بين العروبة وحق العودة يعني أن مسقطي حق العودة في البعد العربي ليسوا وحدهم في الميدان، وأن مجهودات تبذل من شأنها مواجهة هذه التنازلات.
وبنفس الاتجاه وفي مجال آخر يأتي البعد الدولي عنوانا آخرا للملتقى بما فيه من اختراق لحاجز ما يعتبر محرما في السياسة الدولية لجهة التعامل بإيجابية مع حق العودة. حيث نجحت الدعاية الصهيونية وبرعاية من الدول الغربية في فرض مقولة استحالة عودة اللاجئين الفلسطينيين لما في ذلك من تهديد لوجود الدولة العبرية ويهوديتها عند بعض الأطراف.
” مشاركة شخصيات غربية برلمانية وأكاديمية وحقوقية على مدار يومين في مؤتمر لحق العودة وفي دمشق يعني أن الرواية الفلسطينية بدأت تأخذ طريقها للعقل الغربي “ |
إن مشاركة شخصيات غربية برلمانية وأكاديمية وحقوقية على مدار يومين في مؤتمر لحق العودة وفي دمشق، يعني أن الرواية الفلسطينية بدأت تأخذ طريقها للعقل الغربي.
ونحن هنا لا نحدد جهة اليسار السياسي التقليدي فقط من الغرب الأوروبي، بل من تيار الوسط أيضا، من مثل البارونة جيني تونغ الناطقة الرسمية باسم حزب الديمقراطيين الأحرار في مجلس اللوردات البريطاني، وزملاء لها من البرلمان السويسري والإيطالي واليوناني، وإلى جانبهم شخصيات نافذة من فرنسا وهولندا والسويد والنمسا وإسبانيا والدانمارك ودول أخرى. هو عصر الزمان الفلسطيني الذي بدأ فجره يبزغ.
حضور هؤلاء لم يكن ثانويا، ولا حملة علاقات عامة مجردة من المضمون السياسي الحقيقي للملتقى، بل جاء منسجما ومتناغما مع رسالة الداعين إليه. ونذكر هنا السيد ديمترس تسرينوس النائب في البرلمان اليوناني الذي تفاعل سريعا مع نتائج الملتقى عندما شارك في اليوم التالي لرجوعه من دمشق في الجلسة العامة للبرلمان اليوناني بكامل حضوره للأعضاء والحكومة بما فيهم رئيس الوزراء والخاصة بإقرار الميزانية العامة السنوية للدولة.
إذ استهل الكلمة المخصصة له لإطلاع البرلمان على نتائج مشاركته في الملتقى واللقاءات التي أجراها مع المسؤولين الفلسطينيين من حركتي حماس وفتح. وطالب اليونان بأخذ دورها في دعم الشعب الفلسطيني وضرورة كسر الحصار على غزة الذي اعتبره ظالما.
الحضور الكبير للملتقى والذي بلغ خمسة آلاف شخصية، ممثلة لمؤسسات في بلدانها وذات ثقل في ذاتها سياسيا ومهنيا ومعنويا، من قبيل رئيس الوزراء الماليزي السابق محاضر محمد أو المطران كابوتشي أو اللورد نظير أحمد، أو المئات من الإعلاميين المرموقين من وزن حمدي قنديل صاحب برنامج “قلم رصاص”، والفنانين وعلى رأسهم الفنانة القديرة سميحة أيوب والنقابيين ورجال السياسة.
الجميع تنادى للمشاركة وتسجيل حضوره الفاعل، وقد رتبوا أنفسهم كمجموعات وتقاطروا بشكل منظم وعلى حسابهم وبطائرات خاصة لكثرة عددهم من المغرب والجزائر وتونس والسودان ومصر والأردن والكويت والسعودية وقطر والبحرين وعمان وتركيا وإيران وباكستان وأوروبا، ومن أميركا الشمالية واللاتينية وأستراليا وإندونيسيا وماليزيا وغيرها من الدول. وهذا يعني أن باستطاعة المجهود المدني والأهلي أن يكون نافذا وفاعلا ومؤثرا في السياسة وضاغطا باتجاه الحفاظ على الحقوق وعدم التفريط بها.
ساعدت في نجاح الملتقى التغطية الإعلامية النوعية والمكثفة التي عكست التقاط المؤسسات الإعلامية القيمة السياسية للملتقى. وهذا يسجل للمنظمين الذين فطنوا باكرا لأهمية حملة العلاقات العامة باتجاه المؤسسات الإعلامية، وإبراز نقاط القوة في الملتقى بحيث يضمنون أن النتيجة بحجم أهمية قضية حق العودة ووزن الحضور وأهمية المضمون.
” اعتبر الملتقى أن كل الوسائل متاحة للشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه بما في ذلك حقه في المقاومة المسلحة, وقد عبر عن ذلك بكلمتين رئيستين للمقاومة الفلسطينية واللبنانية وضمن الإعلان العالمي لحق العودة “ |
لم يساوم الملتقى في أية قضية باتجاه تحصين الحقوق في طور استعادتها. فقد اعتبر أن كل الوسائل متاحة للشعب الفلسطيني باستعادة حقوقه بما في ذلك حقه في المقاومة المسلحة. وقد عبر عن ذلك بكلمتين رئيستين للمقاومة الفلسطينية وكذلك كلمة للمقاومة اللبنانية. وضمَن الإعلان العالمي لحق العودة بندا رئيسيا أكد هذه النقطة.
شكَل الملتقى حالة إيجابية على المستوى الفلسطيني بالغة الدلالة في ضرورة الانشغال بالهم العام الفلسطيني، وطرح القضايا الجوهرية التي تعني مقارعة للمحتل وعدم ترك الساحة له، في ظل انقسام فلسطيني حاد طغى على المشهد خلال الأشهر الماضية. وقد جنى الشعب الفلسطيني ثمار انعقاد الملتقى في القفز النسبي على حال الخلاف الداخلي، وتجسَد ذلك في التقاء تيارات وشخصيات فلسطينية تحت سقف واحد تعذر لقاؤها بهذا الحجم والكيفية في السابق وخاصة بما تحمل من لافتات أو عناوين متباينة أحيانا.
وبشيء من التفصيل، فإن حضور منظمة التحرير الفلسطينية بكلمة السيد فاروق قدومي إلى جانب السيد خالد مشعل ممثلا للمقاومة الفلسطينية، وكذلك مشاركة شخصيات من حركة فتح كهاني الحسن، وحضور الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي غابت عن المؤتمر الوطني الفلسطيني باكرا هذه السنة، بل ومشاركة المئات من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني التي حصل بين بعضها سوء فهم في السابق بما يعتري العمل العام من خلاف في وجهات نظر العاملين فيها.
كل ذلك أوجد مساحة حوار جاد وأذاب بعض الجليد في بعض طرق التواصل، والمستفيد بالتأكيد القضية والشعب الفلسطيني الذي يحتاج إلى رؤية نماذج تُعنى بقضاياه.
كلَل الملتقى نجاحه بإعلان دمشق العالمي لحق العودة الذي جاء منسجما مع طموح اللاجئين بما يحفظ الحق نقيِّا دون شوائب للأجيال القادمة. فالبنود الستة عشر جاءت بما يعرِّف الحق وتطبيقاته باعتبار العودة المقصودة لذات القرية والمدينة التي هجّر منها اللاجئون، وهذا الحق راسخٌ غير قابل للتصرف أو التنازل عنه أو المساومة عليه أو الانتقاص منه، وهو حق فردي وجماعي ولا يسقط بالتقادم.
واعتبر الإعلان أن التمسك بحق العودة من أولويات المشروع التحرري الوطني الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالمي. واعتبر أصحاب الإعلان الدولة العبرية والقوى الدولية هي المسؤولة عن التهجير والإبادة الجماعية التي حدثت بحق الشعب الفلسطيني.
وأدان الإعلان أية مشاريع تنتقص من حق العودة سواء كانت تعويضا أم تجنيسا أم توطينا أم وطنا بديلا، مهما كانت صفة الجهات التي تتبنى هذه المبادرات. وطالب إعلان دمشق الأمم المتحدة بضرورة الإسراع بتفعيل حق العودة، وطالبها أيضا بالحفاظ على وكالة الأونروا والتأكيد على أهمية دورها.
وجاء في الإعلان أيضا ضرورة أن يأخذ الفلسطينيون في الدول العربية حقوقهم المدنية ليحيوا حياة كريمة حتى يطلعوا بدورهم في العمل للعودة لديارهم. ودعا المجتمعون إلى أهمية رفع درجة التنسيق بين العاملين في الدفاع عن حق العودة وأيضا البحث في آليات جديدة للعمل في طريق استعادة الحقوق.
” كان ملتقى دمشق تتويجا حقيقيا لإحياء الذكرى الستين للنكبة التي استمرت طوال العام 2008 وعمَّت العالم من قبل الفلسطينيين والعرب وداعمي الحقوق الفلسطينية “ |
وقد أولى الملتقى عناية خاصة ببعض القضايا والملفات ووجه سبع رسائل خاصة بشأن سوريا رافضا للعدوان عليها، ولبنان ودعم مقاومته وطالب بالإسراع في إعادة إعمار مخيم نهر البارد. إضافة إلى رسائل دعم للسودان، وعبر عن امتعاضه لما يحدث للاجئين الفلسطينيين في العراق وضرورة رفع الظلم عنهم حتى يعودوا لديارهم في فلسطين. ورسالة أخرى بشأن الحصار على غزة والأسرى والقدس.
كان الملتقى تتويجا حقيقيا لإحياء الذكرى الستين للنكبة التي استمرت طوال العام 2008، والتي عمَّت العالم من قبل الفلسطينيين والعرب وداعمي الحقوق الفلسطينية.
كانت الرسائل بليغة. ونجزم أنها وصلت بقوة للعدو الصهيوني الذي لم يخف ارتباكه حيث طالب وعلى لسان وزيرة خارجيته ليفني بضرورة إسقاط مفردة النكبة من مداولات الأمم المتحدة، ويفكر أيضا بالذهاب لسن قانون يجرِم فلسطينيي 48 إذا أحيوا ذكرى النكبة. في الأفق بوادر استرجاع للحقوق الفلسطينية رغم صورة الإحباط التي قد تبدو في المشهد الحالي.